ذلك هو حال العالم الإسلامي في التنافر بين مثله العليا وبين واقعه المحسوس ، أواخر القرن الهجري الماضي ، يؤمن في نفسه بعظمة وعزة لا يجد لهما في الأمر الواقع مظهراً ، ويقدر قرنه الأوروبي بمنزلة الدون فيجده في الواقع قد سما فوق تلك المنزلة بمراحل ويهجر من شرائعه وعوائده وآدابه ما يجب عنده أن لا يهجر ، ويتلبس من شرائع غيره وعوائده وآدابه بما لا يجوز في نظره أن يتلبس به ، فإذا الفوضى العقلية تنتشر حوله وتسود عليه ، وإذا أمواج الأهواء السياسية تتقاذفه ، وإذا هو مسلوب الإرادة ، مسلوب اللب ، يفعل الشئ ولا يقبل أن يقال أنه فعله ، ويستحل العمل ولا يرضى على من يقول له: إنه حلال ، وكان من طبع تلك الجهالة الأليمة ، أن تنتهي بالمجتمع الذي نزلت به إلى إحدى نتيجتين:
إما الانسلاخ التام عن مثله ومبادئه الاعتقادية ، بتعوده شيئاً فشيئاً ، ما هو جار عليه من واقع ناب عن تلك المثل والمبادئ ، وإما عزم جديد يدفعه إلى أن يجمع نفسه النافرة ، إلى نفسه الحاضرة ويتناول ما هو أمامه بجأش رابط ، وفكر ثاقب ، حينما يستطيع أن يجد في مثله العليا ومبادئه الاعتقادية مساغاً لتلك الأحداث التي هو خائض غمارها من حيث يدري ولا يدري.
ولكن الذي كان يحول بينه وبين ذلك العزم الجديد: أن المثل العليا ، والمبادئ التي استمدها من تعاليم الإسلام ، كانت غير متفتحة لأن يجد فيها مساغاً للأحداث الداهمة عليه ، فإن تلك المبادئ الإسلامية السمحة التي آخت بين العقل والدين ، ومكنت للأحكام الشرعية محل انطباقها ، دائر مع دوران المعاني والمصالح ، واختلاف الظروف الزمنية والمكانية ، كانت مع ذلك قد حملت من البدع ، وسئ التأويل وقصور الأنظار ، ما لا قبل لها باحتماله فقصرت المعاني عن غاياتها ، وانكمشت مرامي الدين عن أنظار العلم والحكمة ، وزادها ظلام عصور الجهالة وقرون الانحلال تضاؤلاً وانكماشاً.
Post Top Ad
الاثنين، 22 مارس 2021
132 التفسير ورجاله للطاهر بن عاشور الصفحة
التصنيف:
# المتشابهات .. كنز الحفاظ في متشابه الألفاظ
عن Tech News
مرحبا! أنا أسمي محمد أعمل هنا في مدونتي وأشارك معكم كل جديد على الانترنت لتعم الفائدة على الجميع وإثراء المحتوى العربي، يسرني دائمًا تلقي ملاحظاتكم وإستفساراتكم من خلال نموذج الأتصال :)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق